هو رجل عرفته كهلا و مازال ، بريئة ملامحه ، قد توارت خلف وشاح من الضنا و الحزن ، . بجسم مكتنز و عينين خضراوتين ومشية عرجاء ، يتنقل في المدينة مطأطأ الرأس قد أثقلت كتفيه أعباء الحياة و بساطته التي استغلها كثير من الناس حتى أولاده الذين أذاب شمعته فداءا لهم.
رجل تخطى الموت بقدرة القادر الحكيم مرات ومرات ، أولاها في عهد الإستعمار الفرنسي يوم كان رضيعا قد حمله أبواه في رحلة سفر ، فلفظه لغم من جوف السيارة بعد أن مزق الباقين ، و أخرى يوم كان مستأجرا لحفر بئر ومعه عمال آخرون يرفعون ما يحفره من تراب فتتداعى جدرانها و تتلاطم صخورها لتهوي فوق رأسه ، فاسترجع الناس و حوقلوا ثم أسرعوا ليخرجوا جثمانه لكن ""يا الله"" كم كانت مفاجأتهم كبيرة حين وجدوه حيا يرزق وهو لم يصب إلا بخدوش طفيفة ...سبحان الله في ما أراد لعبده ، لقد سدت صخرة عظيمة البئر وصارت سقفا أوقف أطنانا من التراب فوق رأسه كأنما تقول لها " ليس بعد " .
أما آخرها فيوم كان يعمل في تجديد سور بستان وقد أمعن هو وزميل له في محاولة اجتثاث شجرة بثت جذورها تحت أساسات الجدار القديمة الذي لم ينتظر كثيرا حتى بدأيرميهم بالأتربة والحصى كأنما يصيح فيهم لينذرهم بسقوطه الوشيك ، أزمع الرجلان على الفرار لكن المفاجأة كبلتهم ، ووقع الجدار عليهم فغطت أحجاره صاحبنا ، و تركت من الآخر الرأس مكشوفا ... وسبحان الله مرة أخرى حين يؤخذ الذي بقي رأسه مكشوفا إلى المستشفى ، مكسور الركبة ، ويستخرج صاحبنا وليس به إلا خدوش في رأسه ، وهو يسأل عن حال زميله ، بل و يحض المنقذين على البدئ به قبل نفسه...
هو إلى يومنا هذا ، لم تكسره الفجائع و زيارات الموت المتكررة ... ما كسره بحق هو لقمة العيش ، وتلك الأفواه الفاغرة التي كبرت بدل أن يكبر أصحابها لإعانته على نوائب الدهر...